ر حلة العمر 1446 هـ (2) الآن فهمتُ الاستطاعة

حين أُغلقت الأبواب فجأة

أول ما أريد حكايته من رحلة العمر هي حكاية العزيمة، العزيمة على الحج التي بدأت في يونيو من عام 2017، لم تبدأ رحلتي في يونيو 2025 بل قبل ذلك بثماني سنوات وتحديداً في رمضان 1438 هــ ..

بعد صلاة التراويح في المسجد تلقيت اتصال من والدي يبشرني باستكمال وقبول التسجيل للحج، ضجّ القلب فرحاً وردد حمداً طويلاً وسجودٍ لا يُرى، شعرت وقتها أنه جبراً من الله أتى بعد محاولات عديدة لإيقاد ضرورة أداء الركن الأعظم، شعرت أيضاً أن رمضان هذا مختلف – وقد كنا في بدايته – وقد كان بالفعل مختلفاً .. 

لكن الفرحة ما لبثت أن اختُبرت، فبعدها بأيام قليلة وتحديداً في الخامس من يونيو 2017 العاشر من رمضان 1438 هـ – التاريخ الذي لا ينساه أهل قطر – نزل خبر آخر، كان مفاجئاً صادماً موجعاً، بدأت أزمة الحصار وحينها عُزِلت أجسادنا قبل حصار حدودنا، شعرت يومها أن الأزمة بُعثت لتحجبني عن رحلة كنت أظن أنها قد كُتبت لي، شعرت أن الباب الذي فُتح للبيت العتيق أُغلق فجأة وبدون مقدمات، لم يوارب فقط بل أُغلق تماماً بلا إنذار بلا تمهيد وبلا أُفق لانفراجه، وظلّ ذلك الشعور فيّ عامًا بعد عام .. 

يا رب استودعك فرحتي بالقبول ، يا رب استودعك عجلتي إليك لترضى، يا رب أستودعك لهفتي للبيت العتيق، يا رب يا رب يا رب ..

هذا ما كنت أردده طوال الفترة التي تلت ذلك اليوم، أتابع الأخبار وأسأل ماذا عن مكة؟ عن طيبة؟ عن المعتمرين والحجيج؟ هل سُمح لهم؟ هل مُنعوا؟ لماذا وإلى متى؟

كانت مكة متاحة وكان الحج ممكنا وكنا نستطيع .. أما الآن فلا نستطيع .. 

عندها فقط فهمت معنى الاستطاعة .. الاستطاعة في الحج هي طريقٌ يُفتح بإذن الله، ويُغلق إن شاء ..

كان الأمر يتطلب عزيمة وتسجيل ومبلغ من المال وانتهى شعرت بالمسلمين الذين يتطلب حجهم أكثر بكثير من مجرد ذلك .. 

كان الطريق مفتوحاً والآن أصبح الطريق إلى مكة مسدوداً ..

تذكّرت قول رسول الله ﷺ حين قال للرجل: “كل بيمينك” فقال: “لا أستطيع”، فقال له: “لا استطعت”، فما رفعها إلى فيه .. وشلت يده ..

كم من الناس يستطيع، لكنه يُسوّف. كم من القادرين على الحج أَجّلوا لسنوات، حتى ضاعت القدرة وغاب الطريق .. الكثير كان مستطيعاً واليوم لا أحد يستطيع .. يا رب إن لم يكن بك عليّنا غضب فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا .. 

رغم كل التوسلات ورغم الفؤاد الذي يهفو لم يشاء الله أن أحج سنة 2017 .. ورضيت .. وسلمت واستسلمت ودعيت .. 

فُرِض الحصار حتى رفعه الله .. بعده جاءت الجائحة ولم أكن ممن تلقوا اللقاح – وقد يكون هذا موضوع مقال آخر – فعُلّقت العزيمة مرة أخرى .. 

سنوات تمضي وعين القلب لا تنام عن الكعبة لكنها تشتاق في صبر ..  وترى القوافل تغادر في كل عام فتغرد الروح ..

يَا رَاحِلِينَ إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ  

لَقَدْ سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحا 

إِنّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ نُكَابِدُهُ  

وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ كَمَنْ رَاحَ

حتى جاء عام 2025، ففتح الله لي بابًا، وقَبِلني في وفده، وكان ما أراد ..  تدبيره دائمًا أعظم من خططي، ورحمته أسبق من عزيمتي ..

ثمان سنوات تعلمت خلالها الثبات على الشوق وإحسان الظن بالله حتى يفتح الله الطريق .. وأدركت أنه حين يُحبَس عنك الطريق فإنه لا محاله لخير وفي الانتظار عبادة ..

ألقاكم في المقال القادم، مع لحظة العزم التي جاءت فجأة بعد انتظار طويل، واستعدادٍ لم يُكتب له أن يبرد ..

#دال13